فصل: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بحبيب الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


الملائكة

‏(‏104‏)‏ سئل فضيلة الشيخ حفظه الله‏:‏ أيهما أفضل الملائكة أم الصالحون من البشر‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ هذه المسألة وهي المفاضلة بين الملائكة وبين الصالحين من البشر محل خلاف بين أهل العلم وكل منهم أدلى بدلوه فيما يحتج به من النصوص، ولكن القول الراجح أن يقال ‏:‏ إن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة باعتبار النهاية فإن الله سبحانه وتعالى يعد لهم من الثواب ما لا يحصل مثله للملائكة فيما نعلم، بل إن الملائكة في مقرهم أي في مقر الصالحين وهو الجنة يدخلون عليهم من كل باب ‏{‏سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏ ‏.‏

أما باعتبار البداية فإن الملائكة أفضل لأنهم خلقوا من نور وجبلوا على طاعة الله عز وجل والقوة عليها كما قال الله تعالى في ملائكة النار‏:‏ ‏{‏عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏.‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ‏}‏ هذا هو القول الفصل في هذه المسألة‏.‏

وبعد فإن الخوض فيها وطلب المفاضلة بين صالحي البشر والملائكة من فضول العلم الذي لا يضطر الإنسان إلى فهمه والعلم به والله المستعان‏.‏

الجن

‏(‏105‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل الجن من الملائكة‏؟‏

فأجاب بقوله ‏:‏ الجن ليسوا من الملائكة، لأن الملائكة خلقوا من نور والجن خلقوا من نار قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ‏}‏ ‏.‏ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة خلقوا من نور ولأن الملائكة كما وصفهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏.‏ والجن فيهم المؤمن والكافر والمطيع والعاصي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ‏}‏ ‏.‏ وقال عن الجن‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}‏ ‏.‏ وقال عنهم أيضاً‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ ‏.‏ ولأن الملائكة كما قال أهل العلم صمد لا يأكلون ولا يشربون، والجن يأكلون ويشربون فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجن الذين وفدوا إليه‏:‏‏)‏ لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً‏(‏فتبين بهذه الأدلة أن الملائكة ليسوا من الجن فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ ‏.‏ فإنما استثناه لأنه كان معهم حينذاك وليس منهم ويبين ذلك قوله تعالى في سورة الكهف ‏:‏ ‏{‏فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ ‏.‏ فعلل فسقه عن أمر ربه بكونه من الجن، ولو كان الملائكة من الجن لأمكن أن يفسقوا عن أمر ربهم كما فسق إبليس، وهذا الاستثناء يسمى استثناء منقطعاً كما يقول النحويون ‏:‏ ‏"‏ جاء القوم إلا حماراً ‏"‏ وهو كلام عربي فصيح، فاستثنى الحمار من القوم وإن لم يكن منهم‏.‏

‏(‏106‏)‏ وسئل جزاه الله عنا وعن المسلمين خيراً‏:‏ هل إبليس من الملائكة‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ إبليس ليس من الملائكة لأن إبليس خلق من نار والملائكة خلقت من نور، ولأن طبيعة إبليس غير طبيعة الملائكة، فالملائكة وصفهم الله تعالى بأنهم‏:‏ ‏{‏لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏.‏ ووصفهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ‏}‏ ‏.‏أما الشيطان فإنه على العكس من ذلك فإنه كان مستكبراً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏.‏ ولكن لما وجه الخطاب إلى الملائكة بالسجود لآدم وكان إبليس من بينهم أي معهم مشاركاً لهم في العبادة وإن كان قلبه والعياذ بالله منطوياً على الكفر والاستكبار صار الخطاب متوجهاً إلى الجميع فلهذا صح استثناؤه منهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ وإلا فأصله ليس منهم بلا شك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

‏(‏107‏)‏ وسئل فضيلته‏:‏ هل للجن تأثير على الإنس وما طريق الوقاية منهم‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ لا شك أن الجن لهم تأثير على الإنس بالأذية التي قد تصل إلى القتل، وربما يؤذونه برمي الحجارة، وربما يروعون الإنسان إلى غير ذلك من الأشياء التي ثبتت بها السنة ودل عليها الواقع، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لبعض أصحابه أن يذهب إلى أهله في إحدى الغزوات وأظنها غزوة الخندق وكان شاباً حديث عهد بعرس، فلما وصل إلى بيته وإذا امرأته على الباب فأنكر عليها ذلك، فقالت له‏:‏ ادخل فدخل فإذا حية ملتوية على الفراش وكان معه رمح فوخزها بالرمح حتى ماتت وفي الحال أي الزمن الذي ماتت فيه الحية مات الرجل فلا يدرى أيهما أسبق موتاً الحية أم الرجل فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن قتل الجنَّان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين‏.‏

وهذا دليل على أن الجن قد يعتدون على الإنس وأنهم يؤذونهم كما أن الواقع شاهد بذلك فإنه قد تواترت الأخبار واستفاضت بأن الإنسان قد يأتي إلى الخربة فيرمى بالحجارة وهو لا يرى أحداً من الإنس في هذه الخربة، وقد يسمع أصواتاً وقد يسمع حفيفاً كحفيف الأشجار وما أشبه ذلك مما يستوحش به ويتأذى به، وكذلك أيضاً قد يدخل الجني إلى جسد الآدمي، إما بعشق، أو لقصد الإيذاء، أو لسبب آخر من الأسباب ويشير إلى هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ‏}‏ ‏.‏ وفي هذا النوع قد يتحدث الجني من باطن الإنسي نفسه ويخاطب من يقرأ عليه آيات من القرآن الكريم وربما يأخذ القارئ عليه عهداً ألا يعود إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة التي استفاضت بها الأخبار وانتشرت بين الناس، وعلى هذا فإن الوقاية المانعة من شر الجن أن يقرأ الإنسان ما جاءت به السنة مما يتحصن به منهم مثل آية الكرسي، فإن آية الكرسي إذا قرأها الإنسان في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح‏.‏ والله الحافظ‏.‏

‏(‏108‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل للجن حقيقة‏؟‏ وهل لهم تأثير‏؟‏ وما علاج ذلك‏؟‏

فأجاب قائلاً ‏:‏ أما حقيقة حياة الجن فالله أعلم بها ولكننا نعلم أن الجن أجسام حقيقية وأنهم خلقوا من النار وأنهم يأكلون ويشربون ويتزاوجون ولهم ذرية كما قال الله تعالى في الشيطان ‏:‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ وأنهم مكلفون بالعبادات فقد أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وحضروا واستمعوا القرآن كما قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا‏}‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ إلى آخر الآيات‏.‏ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجن الذين وفدوا إليه وسألوه الزاد قال‏:‏‏)‏ لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً ‏(‏وهم أعني الجن يشاركون الإنسان إذا أكل ولم يذكر اسم الله على أكله، ولهذا كانت التسمية على الأكل واجبة وكذلك على الشرب كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعليه فإن الجن حقيقة واقعة وإنكارهم تكذيب للقرآن وكفر بالله عز وجل وهم يؤمرون ، وينهون ويدخل كافرهم النار كما قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا‏}‏ ومؤمنهم يدخل الجنة أيضاً لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏.‏والخطاب للجن والإنس‏.‏ ولقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات والنصوص الدالة على أنهم مكلفون يدخلون الجنة إذا أمنوا ويدخلون النار إذا لم يؤمنوا‏.‏

أما تأثيرهم على الإنس فإنه واقع أيضاً فإنهم يؤثرون على الإنس، إما أن يدخلوا في جسد الإنسان فيصرع ويتألم، وإما أن يؤثروا عليه بالترويع والإيحاش وما أشبه ذلك‏.‏

والعلاج من تأثيرهم بالأوراد الشرعية مثل قراءة آية الكرسي، فإن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح‏.‏

‏(‏109‏)‏ وسئل‏:‏ هل يجوز للانسان أن يدعو الله أن يهدي شيطانه‏؟‏

فأجاب قائلاً‏:‏ لا يجوز أن يدعو أحد بهذا، لأنه ينافي حكمة الله وقضاءه وقدره، فإن الله سبحانه قضى بحكمته على إبليس باللعنة إلى يوم الدين‏.‏

‏(‏110‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ عن حكم خدمة الجن للإنس‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى ما مقتضاه أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات‏:‏

الأولى‏:‏ أن يستخدمه في طاعة الله كأن يكون نائباً عنه في تبليغ الشرع، فمثلاً إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعاً فإنه يكون أمراً محموداً أو مطلوباً وهو من الدعوة إلى الله عز وجل والجن حضروا النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، والجن فيهم الصلحاء، والعباد والزهاد، والعلماء، لأن المنذر لابد أن يكون عالماً بما ينذر عابداً‏.‏

الثانية‏:‏ أن يستخدمهم في أمور مباحة فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة فهو محرم مثل أن لا يخدمه الجني إلا أن يشرك بالله كأن يذبح للجني ويركع له أو يسجد ونحو ذلك‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يستخدمهم في أمور محرمة كنهب أموال الناس وترويعهم وما أشبه ذلك، فهذا محرم لما فيه من العدوان والظلم، ثم إن كانت الوسيلة محرمة أو شركاً كان أعظم وأشد‏.‏

‏(‏111‏)‏ وسئل‏:‏ عن حكم سؤال الجن وتصديقهم فيما يقولون‏؟‏

فأجاب قائلاً ‏:‏ سؤال الجن وتصديقهم فيما يقولون‏:‏ قال عنه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوي‏:‏ إن من يسأل الجن أو يسأل من يسأل الجن على وجه التصديق لهم في كل يخبرون به والتعظيم للمسؤول فهو حرام‏.‏

وأما إن كان ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره، وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز، ثم استدل له، ثم ذكر ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر رضي الله عنه وكان هناك امرأة لها قرين أي صاحب من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة‏.‏

‏(‏112‏)‏ سئل الشيخ‏:‏ هل الجن يعلمون الغيب‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏الجن لا يعلمون الغيب و‏{‏لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ‏}‏ واقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ‏}‏ ‏.‏ ومن ادعى علم الغيب فهو كافر‏.‏ ومن صدق من يدعي علم الغيب فإنه كافر أيضاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ‏}‏ ‏.‏فلا يعلم غيب السماوات والأرض إلا الله وحده، وهؤلاء الذين يدعون أنهم يعلمون الغيب في المستقبل كل هذا من الكهانة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏)‏ أن من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ‏(‏فإن صدقه فإنه يكون كافراً لأنه إذا صدقه بعلم الغيب فقد كذب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ‏}

‏(‏113‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ هناك من يحضر الجن بطلاسم يقولها ويجعلهم يخرجون له كنوزاً مدفونة في الأرض منذ زمن بعيد فما حكم هذا العمل‏؟‏

فأجاب قائلاً ‏:‏ هذا العمل ليس بجائز فإن هذه الطلاسم التي يحضرون بها الجن ويستخدمونهم بها لا تخلو من شرك في الغالب والشرك أمره خطير قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ‏}‏ والذي يذهب إليهم يغريهم ويغرهم، يغريهم بأنفسهم وأنهم على حق، ويغرهم بما يعطيهم من الأموال فالواجب مقاطعة هؤلاء، وأن يدع الإنسان الذهاب إليهم، وأن يحذر إخوانه المسلمين من الذهاب إليهم، والغالب في أمثال هؤلاء أنهم يحتالون على الناس ويبتزون أموالهم بغير حق، ويقولون القول تخرصاً ثم إن وافق القدر أخذوا ينشرونه بين الناس ويقولون‏:‏ نحن قلنا وصار كذا ونحن قلنا وصار كذا، وإن لم يوافق ادعوا دعاوى باطلة أنها هي التي منعت هذا الشيء، وإني أوجه النصيحة إلى من ابتلي بهذا الأمر وأقول لهم‏:‏ احذروا أن تمتطوا الكذب على الناس والشرك بالله عز وجل وأخذ أموال الناس بالباطل، فإن أمد الدنيا قريب والحساب يوم القيامة عسير، وعليكم أن تتوبوا إلى الله تعالى من هذا العمل، وأن تصححوا أعمالكم، وتطيبوا أموالكم والله الموفق‏.‏

‏(‏114‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل هناك دليل على أن الجن يدخلون الإنس‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ نعم هناك دليل من الكتاب والسنة، على أن الجن يدخلون الإنس، فمن القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ‏}‏ قال ابن كثير رحمه الله‏:‏ ‏"‏ لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له‏"‏‏.‏

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏)‏ إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏(‏‏.‏

وقال الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة‏:‏ ‏"‏إنهم أي أهل السنة يقولون ‏:‏ إن الجني يدخل في بدن المصروع‏"‏‏.‏ واستدل بالآية السابقة‏.‏

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد‏:‏ ‏"‏ قلت لأبي‏:‏ إن قوماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي فقال‏:‏ يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه‏"‏‏.‏

وقد جاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواها الإمام أحمد والبيهقي، أنه أتي بصبي مجنون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏(‏اخرج عدو الله، اخرج عدو الله‏)‏، وفي بعض ألفاظه‏:‏ ‏(‏اخرج عدو الله أنا رسول الله‏)‏‏.‏ فبرأ الصبي‏.‏

فأنت ترى أن في هذه المسألة دليلاً من القرآن الكريم ودليلين من السنة، وأنه قول أهل السنة والجماعة وقول أئمة السلف، والواقع يشهد به ومع هذا لا ننكر أن يكون للجنون سبب آخر من توتر الأعصاب واختلال المخ وغير ذلك‏.‏

فصل

‏(‏115‏)‏ قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء‏:‏ -

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق الجن والإنس ليعبدوه، وشرع لهم ما تقتضيه حكمته ليجازيهم بما عملوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وكان الله على كل شيء قديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجن بشيراً ونذيراً صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً‏.‏

أما بعد‏:‏

فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏ ‏.‏

والجن عالم غيبي خلقوا من نار، وكان خلقهم قبل خلق الإنس، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ‏}‏ وهم مكلفون، يوجه إليهم أمر الله تعالى ونهيه، فمنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم المطيع، ومنهم العاصي، قال الله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ ‏.‏ أي جماعات متفرقة وأهواء، كما يكون ذلك في الإنس، فالكافر منهم يدخل النار بالإجماع، والمؤمن يدخل الجنة كالإنس، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏.‏ والظلم بينهم وبين الإنس محرم، كما هو بين الآدميين‏.‏ لقوله تعالى في الحديث القدسي‏:‏‏(‏يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا‏)‏ ‏.‏ رواه مسلم، ومع هذا فإنهم يعتدون على الإنس أحياناً، كما يعتدي الإنس عليهم أحياناً، فمن عدوان الإنس عليهم أن يستجمر الإنسان بعظم أو روث، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الجن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الزاد فقال‏:‏ ‏(‏لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم‏)‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم‏)‏‏.‏

ومن عدوان الجن على الإنس أنهم يتسلطون عليهم بالوسوسة التي يلقونها في قلوبهم، ولهذا أمر الله تعالى بالتعوذ من ذلك فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ‏}‏‏.‏ وتأمل كيف قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ‏}‏ فبدأ بذكر الجن، لأن وسوستهم أعظم، ووصولهم إلى الإنسان أخفى‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف يصلون إلى صدور الناس فيوسوسون فيها‏؟‏

فاستمع الجواب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لرجلين من الأنصار‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال ‏:‏ شيئاً‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم‏)‏‏.‏

ومن عدوان الجن على الإنس أنهم يخيفونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب، ولا سيما حين يلتجىء الإنس إليهم، ويستجيرون بهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ ‏.‏ أي خوفاً وإرهاباً وذعراً‏.‏

ومن عدوان الجن على الإنس أن الجني يصرع الإنسي فيطرحه، ويدعه يضطرب حتى يغمى عليه، وربما قاده إلى ما فيه هلاكه من إلقائه في حفرة أو ماء يغرقه، أو نار تحرقه وقد شبه الله تعالى آكلي الربا عند قيامهم من قبورهم بالمصروع الذي يتخبطه الشيطان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ‏}‏ ‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ ‏"‏ وهو الذي يتخبطه فيصرعه‏"‏‏.‏ وقال ابن كثير‏:‏ ‏"‏ إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له‏"‏‏.‏ وقال البغوي‏:‏ ‏"‏ يتخبطه الشيطان أي يصرعه، ومعناه أن آكل الربا يبعث يوم القيامة كمثل المصروع‏"‏‏.‏ وروى الإمام أحمد في مسنده 4/171-172 عن يعلى بن مرة رضي الله عنه أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها قد أصابه لمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اخرج عدو الله أنا رسول الله‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فبرأ الصبي فأهدت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كبشين وشيئاً من أقط وسمن، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأقط والسمن وأحد الكبشين ورد عليها الآخر، ورجال إسناده ثقات‏.‏ وله طرق قال عنها ابن كثير في تاريخه ‏(‏البداية والنهاية‏)‏‏:‏ ‏"‏ فهذه طرق جيدة متعددة، تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة‏"‏‏.‏

قال ابن القيم رحمه الله تعالى وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية البارزين في كتابه ‏(‏زاد المعاد‏)‏ 4/66 ‏:‏ ‏"‏ الصرع صرعان‏:‏ صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة‏.‏ والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه‏.‏ وأما صرع الأرواح فأئمتهم ‏(‏أي الأطباء‏)‏ وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه‏.‏ وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد الزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل ‏!‏ وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهدان به، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم‏"‏‏.‏

وطريق التخلص من هذا النوع من الصرع في أمرين‏:‏ وقاية، وعلاج‏:‏

فأما الوقاية فتكون بقراءة الأوراد الشرعية من كتاب الله تعالى، وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقوة النفس وعدم الجريان وراء الوساوس والتخيلات التي لا حقيقة لها، فإن جريان الإنسان وراء الوساوس والأوهام يؤدي إلى أن تتعاظم هذه الأوهام والوساوس حتى تكون حقيقة‏.‏

وأما العلاج أعني علاج صرع الأوراح، فقد اعترف كبار الأطباء أن الأدوية الطبيعية لا تؤثر فيه‏.‏ وعلاجه بالدعاء، والقراءة، والموعظة، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعالج بقراءة آية الكرسي، والمعوذتين، وكثيراً ما يقرأ في أذن المصروع‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏.‏ قال تلميذه ابن القيم‏:‏ ‏"‏ حدثني أنه قرأ مرة هذه الآية في أذن المصروع فقالت الروح‏:‏ نعم ومد بها صوته ‏!‏ قال‏:‏ فأخذت له عصاً وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يدي من الضرب‏.‏ وفي أثناء ذلك قالت‏:‏ أنا أحبه فقلت لها‏:‏ هو لا يحبك‏.‏ قالت ‏:‏ أنا أريد أن أحج به‏.‏

فقلت لها‏:‏هو لا يريد أن يحج معك‏.‏ قالت‏:‏ أنا أدعه كرامة لك‏.‏ قلت‏:‏ لا ولكن طاعة لله ورسوله‏.‏ قالت‏:‏ فأنا أخرج‏.‏ فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً وقال ‏:‏ ما جاء بي إلى حضرة الشيخ‏"‏ ‏.‏ هذا كلام ابن القيم رحمه الله عن شيخه، وقال ابن مفلح في كتاب‏:‏ ‏(‏الفروع‏)‏، وهو من تلاميذ شيخ الإسلام أيضاً‏:‏ ‏"‏ كان شيخنا إذا أتي بالمصروع وعظ من صرعه، وأمره ونهاه، فإن انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارق ضربه حتى يفارقه‏"‏، والضرب في الظاهر على المصروع، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه‏.‏ وأرسل الإمام أحمد إلى مصروع ففارقه الصارع، فلما مات أحمد عاد إليه‏.‏

وبهذا تبين أن صرع الجن للإنس ثابت بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، والواقع، وأنكر ذلك المعتزلة‏.‏ ولولا ما أثير حول هذه المسألة من بلبلة وجدال أدى إلى جعل كتاب الله تعالى دالاً على معانٍ تخييلية لا حقيقة لها، ولولا أن إنكار هذا يستلزم تسفيه أئمتنا وعلمائنا من أهل السنة، أو تكذيبهم أقول ‏:‏ لولا هذا وهذا ما تكلمت في هذه المسألة لأنها من الأمور المعلومة بالحس، والمشاهدة، وما كان معلوماً بالحس، والمشاهدة لا يحتاج إلى دليل لأن الأمور الحسية دليل بنفسها، وإنكارها مكابرة أو سفسطة‏.‏ فلا تخدعوا أنفسكم، ولا تتعجلوا، واستعيذوا بالله من شرور خلقه من الجن والإنس، واستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور التواب الرحيم‏.‏

‏(‏116‏)‏ سئل فضيلة الشيخ حفظه الله هل الجن أسلموا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا بالرسل من قبل هل فرض عليهم الحج وإن كان كذلك فأين يحجون‏؟‏‏.‏

فأجاب حفظه الله بقوله‏:‏ إن الجن مكلفون بلا شك مكلفون بطاعة الله سبحانه وتعالى وإن منهم المسلم والكافر، ومنهم الصالح ومن دون ذلك كما ذكر الله تعالى في سورة الجن عنهم حيث قالوا‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}‏ ‏.‏

وقد صرف الله نفراً من الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعوا القرآن وآمنوا به وذهبوا دعاة إلى قومهم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏.‏

وهذا يدل على أن الجن كانوا مؤمنين بالرسل السابقين وأنهم يعلمون كتبهم لقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكرم وفد الجن الذين وفدوا إليه بأن قال‏:‏‏)‏ لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة فهي علف لدوابكم‏(‏ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستجمار بالعظام وعن الاستجمار بالروث وقال‏:‏‏)‏ إن العظام زاد إخوانكم من الجن‏(‏‏.‏

والظاهر أنهم مكلفون بما يكلف به الإنس من العبادات ولا سيما أصولها كالأركان الخمسة، وحجهم يكون كحج الإنس زمناً ومكاناً وإن كانوا يختلفون عن الإنس في جنس العبادات التي لا تناسب حالهم فتكون مختلفة عن التكليف الذي يكلف به الإنس‏.‏ والله أعلم‏.‏

القرآن

‏(‏117‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ عن عقيدة السلف في القرآن الكريم‏؟‏

فأجاب قائلاً‏:‏ عقيدة السلف في القرآن الكريم كعقيدتهم في سائر أسماء الله وصفاته وهي عقيدة مبنية على ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلنا يعلم أن الله سبحانه وتعالى وصف القرآن الكريم بأنه كلامه، وأنه منزل من عنده قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ ‏.‏ والمراد بلا ريب بكلام الله هنا القرآن الكريم وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ‏}‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ فالقرآن كلام الله تعالى لفظاً ومعنى، تكلم الله به حقيقة وألقاه إلى جبريل الأمين، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين‏.‏

ويعتقد السلف أن القرآن منزل نزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم منجماً أي مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة حسب ما تقتضيه حكمة الله عز وجل، ثم إن النزول يكون ابتدائياً، ويكون سببياً بمعنى أن بعضه ينزل لسبب معين اقتضى نزوله، وبعضه ينزل بغير سبب، وبعضه ينزل في حكاية حال مضت للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبعضه ينزل في أحكام شرعية ابتدائية على حسب ما ذكره أهل العلم في هذا الباب‏.‏

ثم إن السلف يقولون‏:‏ إن القرآن من عند الله ابتداء وإليه يعود في آخر الزمان هذا قول السلف في القرآن الكريم‏.‏

ولا يخفى علينا أن الله تعالى وصف القرآن الكريم بأوصاف عظيمة وصفه بأنه حكيم، وبأنه كريم وبأنه عظيم، وبأنه مجيد، وهذه الأوصاف التي وصف الله بها كلامه تكون لمن تمسك بهذا الكتاب وعمل به ظاهراً وباطناً فإن الله تعالى يجعل له من المجد، والعظمة، والحكمة، والعزة، والسلطان، ما لا يكون لمن لم يتمسك بكتاب الله عز وجل ولهذا أدعو من هذا المنبر جميع المسلمين حكاما ًومحكومين، علماء وعامة إلى التمسك بكتاب الله عز وجل ظاهراً وباطناً حتى تكون لهم العزة، والسعادة، والمجد، والظهور في مشارق الأرض ومغاربها، وأسال الله تعالى أن يعيننا على تحقيق ذلك‏.‏

‏(‏118‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ عن فتنة القول بخلق القرآن‏؟‏

فأجاب قائلاً‏:‏ في عهد الإمام أحمد رحمه الله وقبله ظهرت فتنة خلق القرآن، وكان يقوم بها المعتزلة، فيقولون‏:‏ إن كلام الله عز وجل مخلوق من جملة المخلوقات وليس وصفاً من أوصاف الله عز وجل فهو غير قائم بالله بل هو مخلوق منفصل عن الله، فلا يفرقون بين السماء وبين كلام الله ولا بين الأرض وبين كلام الله، فالكل كما يقولون مخلوق، وكذلك الأنعام والمطر، فالكل منزل، ولا شك أنه يلزم على قولهم لوازم باطلة، فيلزم أن يصح قول من يقول‏:‏ كلام الناس هو كلام الله لأن كلام الناس مخلوق، ويلزم على ذلك إبطال التقسيم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ‏}‏ ‏.‏ فإن الأمر إنما يكون عن طريق الكلام، فإذا صار الكلام مخلوقاً فالكل مخلوق وليس هناك خلق وأمر بل ليس هناك إلا خلق‏.‏ ويؤدي كذلك إلى إبطال دلالة القرآن الكريم، وله لوازم كثيرة ذكرها أهل العلم في الكتب المطولة‏.‏

وقد أمتحن الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أهل العلم لأن المأمون وكان خليفة المسلمين تزعم قيادة هذا القول ودعا الناس إليه، وكما هو معلوم إذا التزم الحاكم شيئاً يصعب على الناس الخروج عنه، فلم يصبر على مخالفة هذا إلا أفذاذ قليلون من الرجال، وكان هو الذي صمد صموداً تاماً كاملاً رحمه الله ولهذا انصب عليه العذاب والحبس واشتهر بهذا رحمه الله وحمى الله به عقيدة أهل السنة من القول بخلق القرآن، فبقي الناس والحمد لله يقولون‏:‏ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق‏.‏

الرسل

‏(‏119‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل الأنبياء المذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ‏}‏ رسل أم لا‏؟‏ ومن أول الرسل‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ النبيون المذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏.‏ كلهم رسل لقوله تعالى في سياقها‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ وكل من ذكر في القرآن من النبيين فهم رسل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏}‏ وأول الرسل نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ وقد ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون نوحاً فيقولون له‏:‏ أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ، ولقوله تعالى في محمد صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏ ‏.‏وإذا كان خاتم النبيين فهو خاتم الرسل قطعاً إذ لا رسالة إلا بنبوة ولهذا يقال‏:‏ كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً ‏.‏

‏(‏120‏)‏ وسئل فضيلته‏:‏ هل الرسل عليهم الصلاة والسلام سواء في الفضيلة‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليسوا سواء في الفضيلة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ‏}‏ ‏.‏ وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏.‏

ويجب علينا أن نؤمن بجميع الرسل أنهم حق صادقون فيما جاؤوا به مصدقون فيما أوحي إليهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏.‏ إلى قوله ‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ‏}‏ ‏.‏ ولأن هذا طريق النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏.‏

فلا نفرق بين أحد من الرسل في الإيمان به، وأنه صادق، مصدوق ورسالته حق ولكن نفرق في أمرين‏:‏

الأول‏:‏ الأفضلية فنفضل بعضهم على بعض كما فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، لكن لا نقول ذلك على سبيل المفاخرة أو التنقص للمفضول كما في صحيح البخاري ‏(‏أن يهودياً أقسم فقال‏:‏ لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطم وجهه رجل من الأنصار حين سمعه وقال ‏:‏ تقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ‏:‏ إن لي ذمة وعهداً فما بال فلان لطم وجهي‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري‏:‏ ‏"‏ لم لطمت وجهه‏؟‏ ‏"‏ فذكره فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رئي في وجهه ثم قال‏:‏‏"‏ لا تفضلوا بين أنبياء الله‏"‏‏)‏‏.‏ وكما في صحيحه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ‏(‏لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى‏)‏ ‏.‏

الثاني‏:‏ الاتباع فلا نتبع إلا من أرسل إلينا وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم نسخت جميع الشرائع لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏.‏

‏(‏121‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ هل هناك فرق بين الرسول والنبي‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ نعم، فأهل العلم يقولون‏:‏ إن النبي هو من أوحى الله إليه بشرع ولم يأمره بتبليغه بل يعمل به في نفسه دون إلزام بالتبليغ‏.‏

والرسول هو من أوحى الله إليه بشرع وأمره بتبليغه والعمل به‏.‏ فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، والأنبياء أكثر من الرسل، وقد قص الله بعض الرسل في القرآن ولم يقصص البعض الآخر‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏.‏

وبناء على هذه الآية يتبين أن كل من ذكر في القرآن من الأنبياء فهو رسول‏.‏

‏(‏122‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ قلتم في الفتوى السابقة رقم ‏"‏ 124 ‏:‏ ‏"‏ إن النبي من أوحي إليه بالشرع ولم يؤمر بتبليغه أما الرسول فهو من أوحي إليه بالشرع وأمر بتبليغه ولكن كيف لا يؤمر النبي بتبليغ الشرع وقد أوحي إليه‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ أوحى الله إلى النبي بالشرع من أجل إحياء الشرع بمعنى أن من رآه اقتدى به واتبعه دون أن يلزم بإبلاغه، ومن ذلك ما حصل لآدم عليه الصلاة والسلام، فإن آدم كان نبياً مكلماً كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع هذا فليس من الرسل لأنه قد دلت السنة بل دل القرآن، والسنة، وإجماع الأمة على أن أول رسول أرسله الله هو نوح عليه السلام‏.‏ وآدم لابد أن يكون متعبداً لله بوحي من الله فيكون قد أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ ولهذا لا يعد من الرسل‏.‏

‏(‏123‏)‏ سئل فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً‏:‏ من أول الرسل‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ أول الرسل عليهم الصلاة والسلام، نوح عليه الصلاة والسلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وأما قبل نوح فلم يبعث رسول، وبهذا نعلم خطأ المؤرخين الذين قالوا‏:‏ إن إدريس صلى الله عليه وسلم كان قبل نوح، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ وفي الحديث الصحيح في قصة الشفاعة ‏(‏أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له ‏:‏ أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض‏)‏ فلا رسول قبل نوح، ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏ ‏.‏

وأما نزول عيسى بن مريم، عليه السلام في آخر الزمان فإنه لا ينزل على أنه رسول مجدد، بل ينزل على أنه حاكم بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأن الواجب على عيسى وعلى غيره من الأنبياء الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ وهذا الرسول المصدق لما معهم هو محمد صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك عن ابن عباس وغيره‏.‏

‏(‏124‏)‏ سئل‏:‏ هل آدم عليه الصلاة والسلام، رسول أو نبي‏؟‏

فأجاب بقوله ‏:‏ آدم ليس برسول ولكنه نبي، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم أنبي هو‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏نعم نبي مكلم‏)‏ ، ولكنه ليس برسول والدليل قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ‏:‏ إن الناس يذهبون إلى نوح فيقولون‏:‏ ‏(‏أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض‏)‏ وهذا نص صريح بأن نوحاً أول الرسل‏.‏

‏(‏125‏)‏ وسئل فضيلته‏:‏ عن عقيدة المسلمين في عيسى بن مريم، عليه الصلاة والسلام‏؟‏

فأجاب‏:‏ عقيدة المسلمين في عيسى بن مريم، عليه الصلاة والسلام، أنه أحد الرسل الكرام، بل أحد الخمسة الذين هو أولو العزم وهم‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ونوح، وموسى، وعيسى، عليهم الصلاة والسلام، ذكرهم الله في موضعين من كتابه ‏:‏ في سورة الأحزاب‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏ وفي سورة الشورى ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏.‏

وأن عيسى عليه الصلاة والسلام، بشر من بني آدم مخلوق من أم بلا أب، وأنه عبد الله ورسوله فهو عبد لا يٌعبد، ورسول لا يكذب، وأنه ليس له من خصائص الربوبية شيء بل هو كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ وأنه، عليه الصلاة والسلام، لم يأمر قومه بأن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وإنما قال لهم ما أمره الله به ‏:‏ ‏{‏أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏}‏ وأنه،عليه السلام خلق بكلمة الله عز وجل كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ وأنه ليس بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم رسول كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ولا يتم إيمان أحد حتى يؤمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه مبرأ ومنزه عما وصفه به اليهود الذين قالوا‏:‏ ‏"‏إنه ابن بغي وإنه نشأ من الزنى‏"‏ والعياذ بالله وقد برأه الله تعالى من ذلك، كما أنهم أي المسلمين يتبرؤون من طريق النصارى الذين ضلوا في فهم الحقيقة بالنسبة لعيسى ابن مريم حيث اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وقال بعضهم‏:‏ إنه ابن الله، وقال بعضهم‏:‏ إنه ثالث ثلاثة‏.‏

أما فيما يتعلق بقتله وصلبه فالله سبحانه وتعالى قد نفى أن يكون قد قتل أو صلب نفياً صريحاً قاطعاً فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا‏}‏ فمن اعتقد أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، قتل وصلب فقد كذب القرآن، ومن كذب القرآن فقد كفر، فنحن نؤمن بأن عيسى ، عليه الصلاة والسلام لم يقتل ولم يصلب ، ولكننا نقول ‏:‏ إن اليهود باؤوا بإثم القتل والصلب حيث زعموا أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وهم لم يقتلوه حقيقة بل قتلوا من شبه لهم، حيث ألقى الله شبهه على واحد منهم فقتلوه وصلبوه، وقالوا‏:‏ إننا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، فاليهود باؤوا بإثم القتل والصلب بإقرارهم على أنفسهم، والمسيح عيسى ابن مريم برأه الله من ذلك وحفظه ورفعه سبحانه وتعالى عنده إلى السماء وسوف ينزل في آخر الزمان إلى الأرض فيحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم ثم يموت في الأرض ويدفن فيها ويخرج منها كما يخرج سائر بني آدم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ ‏.‏

‏(‏126‏)‏ وسئل فضيلة الشيخ‏:‏ حفظه الله تعالى ‏:‏ عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بحبيب الله‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم حبيب الله لا شك فهو حاب لله ومحبوب لله، ولكن هناك وصف أعلى من ذلك وهو خليل لله، فالرسول صلى الله عليه وسلم خليل الله كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً‏)‏‏.‏ ولهذا من وصفه بالمحبة فقط فإنه نزله عن مرتبته، فالخلة أعظم من المحبة وأعلى، فكل المؤمنين أحباء الله، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام أعلى من ذلك وهو الخلة فقد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، لذلك نقول ‏:‏ إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم خليل الله، وهذا أعلى من قولنا ‏:‏ حبيب الله لأنه متضمن للمحبة، وزيادة لأنه غاية المحبة‏.‏

‏(‏127‏)‏ وسئل الشيخ حفظه الله تعالى ‏:‏ عن حكم جعل مدح النبي صلى الله عليه وسلم تجارة‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ حكم هذا محرم، ويجب أن يعلم بأن المديح للنبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن يكون مدحاً فيما يستحقه صلى الله عليه وسلم بدون أن يصل إلى درجة الغلو فهذا لا بأس به أي لا بأس أن يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أهله من الأوصاف الحميدة الكاملة في خلقه وهديه صلى الله عليه وسلم‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ من مديح الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يخرج بالمادح إلى الغلو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال ‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا ‏:‏ عبد الله ورسوله‏)‏‏.‏ فمن مدح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غياث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، وأنه مالك الدنيا والآخرة، وأنه يعلم الغيب وما شابه ذلك من ألفاظ المديح فإن هذا القسم محرم بل قد يصل إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة، فلا يجوز أن يمدح الرسول، عليه الصلاة والسلام، بما يصل إلى درجة الغلو لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏.‏

ثم نرجع إلى أتخاذ المديح الجائز حرفة يكتسب بها الإنسان فنقول أيضاً ‏:‏ إن هذا حرام ولا يجوز ، لأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بما يستحق وبما هو أهل له صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق والصفات الحميدة ، والهدي المستقيم مدحه بذلك من العبادة التي يتقرب بها إلى الله ، وما كان عبادة فإنه لا يجوز أن يتخذ وسيلة إلى الدنيا لقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏.‏ والله الهادي إلى سواء الصراط‏.‏

‏(‏128‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ عمن قال‏:‏ إن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم كان لغرضين‏:‏ أحدهما‏:‏ مصلحة الدعوة، والثاني‏:‏ التمشي مع ما فطره الله عليه من التمتع بما أحل الله له‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أكرمه الله تعالى بالنبوة والرسالة إلى الناس كافة، وأن اتصافه بما تقتضيه الطبيعة البشرية من الحاجة إلى الأكل، والشرب، والنوم، والبول، والغائط ومدافعة البرد، والحر، والعدو، ومن التمتع بالنكاح، وأطايب المأكول والمشروب وغيرها من مقتضيات الطبيعة البشرية لا يقدح في نبوته ورسالته، بل قد قال الله له‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ‏}‏ وقال هو عن نفسه‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون‏)‏‏.‏

وانتفاء علم الغيب، وطرو النسيان على العلم قصور في مرتبة العلم من حيث هو علم، لكن لما كان من طبيعة البشر الذي خلقه الله ضعيفاً في جميع أموره، لم يكن ذلك قصوراً في مقام النبوة، ونقصاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولا ريب أن شهوة النكاح من طبيعة الإنسان فكمالها فيه من كمال طبيعته، وقوتها فيه تدل على سلامة البنية واستقامة الطبيعة، ولهذا ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏كنا نتحدث أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم أعطي قوة ثلاثين‏)‏‏.‏

يعني على النساء، وهذا والله أعلم، ليتمكن من إدراك ما أحل الله منهن بلا حصر ولا مهر، ولا ولي، فيقوم بحقوقهن، ويحصل بكثرتهن ما حصل من المصالح العظيمة الخاصة بهن والعامة للأمة جميعاً، ولولا هذه القوة التي أمده الله بها ما كان يدرك أن يتزوج بكل هذا العدد، أو يقوم بحقهن من الإحصان والعشرة‏.‏

ولو فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة والتمشي مع ما تقتضيه الفطرة بل الطبيعة لم يكن في ذلك قصور في مقام النبوة، ولا نقص في حقه صلى الله عليه وسلم كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏(‏تنكح المرأة لأربع‏:‏ لمالها ، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين‏)‏‏.‏ بل قد قال الله له‏:‏ ‏{‏لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ‏}‏ ‏.‏ لكننا لا نعلم حتى الآن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة، ولو كان كذلك لاختار الأبكار الباهرات جمالاً، الشابات سنّاً، كما قال لجابر رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوج ثيباً، قال ‏:‏ ‏(‏فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك‏)‏‏؟‏ ‏.‏ وفي رواية ‏:‏ ‏(‏وتضاحكها وتضاحكك‏)‏ ‏.‏ وفي رواية ‏:‏ ‏(‏مالك وللعذارى ولعابها‏)‏، رواه البخاري، وإنما كان زواجه صلى الله عليه وسلم إما تأليفاً، أو تشريفاً، أو جبراً أو مكافأة، أو غير ذلك من المقاصد العظيمة‏.‏ وقد أجملها في فتح الباري ص 115ج 9 المطبعة السلفية حيث قال‏:‏ ‏"‏ والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك‏.‏

ثانيها‏:‏ لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم‏.‏

ثالثها‏:‏ الزيادة في تألفهم لذلك‏.‏

رابعها‏:‏ الزيادة في التكليف حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ‏.‏

خامسها‏:‏ لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزداد أعوانه على من يحاربه‏.‏

سادسها‏:‏ نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله‏.‏

سابعها‏:‏ الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة‏.‏ فقد تزوج أم حبيبة وأبوها يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن‏.‏

ثامنها‏:‏ ما تقدم مبسوطاً من خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب، وكثرة الصيام والوصال‏.‏ وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته، فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

تاسعها وعاشرها‏:‏ ما تقدم عن صاحب الشفاء من تحصينهن والقيام بحقوقهن ‏.‏ أ‏.‏ هـ‏.‏

قلت‏:‏ الثامنة حاصلة لأن الله أعطاه قوة ثلاثين رجلاً كما سبق‏.‏

وثم وجه حادي عشر‏:‏ وهو إظهار كمال عدله في معاملتهن لتتأسى به الأمة في ذلك‏.‏

وثاني عشر‏:‏ كثرة انتشار الشريعة فإن انتشارها من عدد أكثر من انتشارها من واحدة‏.‏

وثالث عشر‏:‏ جبر قلب من فات شرفها كما في صفية بنت حيي وجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق‏.‏

ورابع عشر‏:‏ تقرير الحكم الشرعي وانتشال العقيدة الفاسدة التي رسخت في قلوب الناس من منع التزوج بزوجة ابن التبني، كما في قصة زينب فإن اقتناع الناس بالفعل أبلغ من اقتناعهم بالقول، وانظر اقتناع الناس بحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه في الحديبية ومبادرتهم بذلك حين حلق بعد أن تباطؤوا في الحلق مع أمره لهم به‏.‏

وخامس عشر‏:‏ التأليف وتقوية الصلة كما في أمر عائشة وحفصة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شد صلته بخلفائه الأربعة عن طريق المصاهرة، مع ما لبعضهم من القرابة الخاصة، فتزوج ابنتي أبي بكر وعمر وزوج بناته الثلاث بعثمان وعلي رضي الله عن الجميع فسبحان من وهب نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الحكم، وأمده بما يحققها قدراً وشرعاً، فأعطاه قوة الثلاثين رجلاً، وأحل له ما شاء من النساء يرجي من يشاء منهن، ويؤوي إليه من يشاء، وهو سبحانه الحكيم العليم‏.‏

وأما عدم تزوجه بالواهبة نفسها، فلا يدل على أنه تزوج من سواها لمجرد الشهوة، وقضاء وطر النكاح‏.‏

وأما ابنة الجون فلم يعدل عن تزوجها بل دخل عليها وخلا بها، ولكنها استعاذت بالله منه، فتركها النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏لقد عذت بعظيم فالحقي بأهلك‏)‏ ‏.‏ ولكن هل تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد جمالها وقضاء وطر النكاح أو لأمر آخر‏؟‏ إن كان لأمر آخر سقط الاستدلال به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتزوج لمجرد قضاء الوطر، وإن كان لأجل قضاء الوطر فإن من حكمة الله تعالى أن حال بينه وبين هذه المرأة بسبب استعاذتها منه‏.‏

وأما سودة رضي الله عنها فقد خافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم لكبر سنها فوهبت يومها لعائشة، وخوفها منه لا يلزم منه أن يكون قد هم به‏.‏ وأما ما روي أنه طلقها بالفعل فضعيف لإرساله‏.‏

وأما زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب فليس لجمالها بل هو لإزالة عقيدة سائدة بين العرب، وهي امتناع الرجل من تزوج مفارقة من تبناه، فأبطل الله التبني وأبطل الأحكام المترتبة عليه عند العرب، ولما كانت تلك العقيدة السائدة راسخة في نفوس العرب كان تأثير القول في اقتلاعها بطيئاً، وتأثير الفعل فيها أسرع فقيض الله سبحانه بحكمته البالغة أن يقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم في تزوجه بمفارقة مولاه زيد بن حارثة الذي كان تبناه من قبل ليطمئن المسلمون إلى ذلك الحكم الإلهي، ولا يكون في قلوبهم حرج منه، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحكمة بقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً‏}‏ ‏.‏ ثم تأمل قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏زَوَّجْنَاكَهَا‏}‏‏.‏ فإنه يشعر بأن تزويجها إياه لم يكن عن طلب منه، أو تشوف إليه، وإنما هو قضاء من الله لتقرير الحكم الشرعي وترسيخه وعدم الحرج منه وبهذا يعرف بطلان ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة فرأى زينب فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال‏:‏ ‏(‏سبحان الله مقلب القلوب‏)‏‏.‏ فأخبرت زينب زيداً بذلك ففطن له فكرهها وطلقها بعد مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ‏}‏‏.‏ فهذا الأثر باطل مناقض لما ذكر الله تعالى من الحكمة في تزويجها إياه، وقد أعرض عنه ابن كثير رحمه الله فلم يذكره، وقال‏:‏ أحببنا أن نضرب عنها أي عن الآثار الواردة عن بعض السلف صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها، ويدل على بطلان هذا الأثر أنه لا يليق بحال الأنبياء فضلاً عن أفضلهم وأتقاهم لله عز وجل وما أشبه هذه القصة بتلفيق قصة داود عليه الصلاة والسلام، وتحيله علي التزوج بزوجة من ليس له إلا زوجة واحدة، على ما ذكر في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ‏}‏ ‏.‏ إلى آخر القصة فإن من علم قدر الأنبياء وبعدهم عن الظلم والعدوان والمكر والخديعة علم أن هذه القصة مكذوبة على نبي الله دواد عليه الصلاة والسلام‏.‏

والحاصل أنه وإن جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج لمجرد قضاء الوطر من النكاح وجمال المرأة وأن ذلك لا يقدح في مقامه، فإننا لا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج زواجاً استقرت به الزوجة وبقيت معه من أجل هذا الغرض‏.‏ والله أعلم‏.‏

‏(‏129‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ لماذا وجه الله الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ‏}‏ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك‏؟‏

فأجاب بقوله‏:‏ الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم في ظاهر سياق الآية‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ لا يصح أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يقع منه ذلك والآية على تقدير ‏"‏ قل ‏"‏ وهذا ضعيف لإخراج الآية عن سياقها‏.‏

والصواب‏:‏ أنه إما خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم والحكم له ولغيره، وإما عام لكل من يصح خطابه ويدخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب لا يقتضي أن يكون ذلك ممكناً منه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ فالخطاب له ولجميع الرسل ولا يمكن أن يقع، فلا يمكن أن يقع منه صلى الله عليه وسلم باعتبار حاله شرك أبداً، والحكمة من النهي أن يكون غيره متأسياً به فإذا كان النهي موجهاً إلى من لا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله فهو إلى من يمكن منه من باب أولى ‏.‏

‏(‏130‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة‏)‏‏؟‏ ومن الذي تصدق رؤياه‏؟‏

فأجاب بقوله ‏:‏ معنى قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة‏)‏ أن رؤيا المؤمن تقع صادقة لأنها أمثال يضربها الملك للرائي، وقد تكون خبراً عن شيء واقع، أو شيء سيقع فيقع مطابقاً للرؤيا فتكون هذه الرؤيا كوحي النبوة في صدق مدلولها وإن كانت تختلف عنها ولهذا كانت جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة وتخصيص الجزء بستة وأربعين جزءاً من الأمور التوقيفية التي لا تعلم حكمتها كأعداد الركعات والصلوات‏.‏

وأما الذي تصدق رؤياه فهو الرجل المؤمن الصدوق إذا كانت رؤياه صالحة، فإذا كان الإنسان صدوق الحديث في يقظته وعنده إيمان وتقوى فإن الغالب أن الرؤيا تكون صادقة، ولهذا جاء هذا الحديث مقيداً في بعض الروايات بالرؤيا الصالحة من الرجل الصالح، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً‏)‏‏.‏

ولكن ليعلم أن ما يراه الإنسان في منامه ثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ رؤيا حق صالحة وهي التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وغالباً ما تقع، ولكن أحياناً يكون وقوعها على صفة ما رآه الإنسان في منامه تماماً، وأحياناً يكون وقوعها على صفة ضرب الأمثال في المنام، يضرب له المثل ثم يكون الواقع على نحو هذا المثل وليس مطابقاً له تماماً، مثل ما رأى النبي، عليه الصلاة والسلام، قبيل غزوة أحد أن في سيفه ثلمة، ورأى بقراً تنحر، فكان الثلمة التي في سيفه استشهاد عمه حمزة رضي الله عنه لأن قبيلة الإنسان بمنزلة سيفه في دفاعهم عنه ومعاضدته ومناصرته، والبقر التي تنحر كان استشهاد من استشهد من الصحابة رضي الله عنهم لأن في البقر خيراً كثيراً، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا أهل علم ونفع للخلق وأعمال صالحة‏.‏

القسم الثاني ‏:‏ الحلم وهو ما يراه الإنسان في منامه مما يقع له في مجريات حياته، فإن كثيراً من الناس يرى في المنام ما تحدثه نفسه في اليقظة وما جرى عليه في اليقظة وهذا لا حكم له‏.‏

القسم الثالث‏:‏ إفزاع من الشيطان، فإن الشيطان يصور للإنسان في منامه ما يفزعه من شيء في نفسه، أو ماله، أو في أهله، أو في مجتمعه، لأن الشيطان يحب إحزان المؤمنين كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ فكل شيء ينكد على الإنسان في حياته ويعكر صفوه عليه فإن الشيطان حريص عليه سواء ذلك في اليقظة أو في المنام، لأن الشيطان عدو كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا‏}‏ وهذا النوع الأخير أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التحرز منه فأمر من رأى في منامه ما يكره أن يستعيذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأى، وأن يتفل عن يساره ثلاث مرات، وأن ينقلب على جنبه الآخر، وأن لا يحدث أحداً بما رأى فإذا فعل هذه الأمور فإن ما رآه مما يكره في منامه لا يضره شيئاً‏.‏

وهذا يقع كثيراً من الناس ويكثر السؤال عنه لكن الدواء له ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر عند مسلم ‏(‏إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه‏)‏‏.‏ وكما في حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري ‏(‏إذا رأى أحدكم ما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره‏)‏‏.‏ وكما في حديث أبي قتادة عند مسلم قال‏:‏ ‏(‏كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره‏)‏‏.‏ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس‏)‏‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من رأى ما يكره بأمور‏:‏

1‏.‏ أن يبصق عن يساره ثلاثاً‏.‏

2‏.‏ أن يستعيذ بالله من شر الشيطان ثلاثاً‏.‏

3‏.‏ أن يستعيذ بالله من شر ما رأى ‏.‏

4‏.‏ أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه إلى الجنب الآخر‏.‏

5‏.‏ أن لا يحدث بها أحداً‏.‏

6‏.‏ أن يقوم فيصلي‏.‏

‏(‏131‏)‏ سئل فضيلة الشيخ‏:‏ كيف نجمع بين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ‏}‏‏؟‏

فأجاب حفظه الله بقوله‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏.‏ فالأنبياء والرسل لا شك أن بعضهم أفضل من بعض فالرسل أفضل من الأنبياء ، وأولو العزم من الرسل أفضل ممن سواهم ، وأولو العزم من الرسل هم الخمسة الذين ذكرهم الله تعالى في آيتين من القرآن إحداهما في سورة الأحزاب‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏ ‏.‏ محمد، عليه الصلاة والسلام، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم‏.‏

والآية الثانية في سورة الشورى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏}‏ ‏.‏ فهؤلاء خمسة وهم أفضل ممن سواهم‏.‏

وأما قوله تعالى عن المؤمنين‏:‏ ‏{‏كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏.‏ فالمعنى لا نفرق بينهم في الإيمان بل نؤمن أن كلهم رسل من عند الله حقّاًَ وأنهم ما كذبوا فهم صادقون مصدقون وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏.‏ أي في الإيمان بل نؤمن أن كلهم، عليهم الصلاة والسلام، رسل من عند الله حقّاً‏.‏

لكن في الإيمان المتضمن للاتباع هذا يكون لمن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم خاصّاً بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم هو المتبع، لأن شريعته نسخت ماسواها من الشرائع وبهذا نعلم أن الإيمان يكون للجميع كلهم نؤمن بهم وأنهم رسل الله حقاً وأن شريعته التي جاء بها حق، وأما بعد أن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فإن جميع الأديان السابقة نسخت بشريعته صلى الله عليه وسلم وصار الواجب على جميع الناس أن ينصروا محمداً صلى الله عليه وسلم وحده ولقد نسخ الله تعالى بحكمته جميع الإديان سوى دين الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ فكانت الأديان سوى دين الرسول صلى الله عليه وسلم كلها منسوخة لكن الإيمان بالرسل وأنهم حق هذا أمر لا بد منه‏.‏

‏(‏132‏)‏ سئل فضيلة الشيخ حفظه الله‏:‏ عن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم‏؟‏

فأجاب حفظه الله بقوله‏:‏ معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وهي الآيات الدالة على رسالته صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حقّاً كثيرة جداً وأعظم آية جاء بها هذا القرآن الكريم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏.‏

فالقرآن العظيم أعظم آية جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفع لمن تدبرها واقتدى بها لأنها آية باقية إلى يوم القيامة‏.‏

أما الآيات الأخرى الحسية التي مضت وانقضت أو لا تزال تحدث فهي كثيرة وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جملة صالحة منها في آخر كتابه ‏"‏ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح‏"‏، هذا الكتاب الذي ينبغي لكل طالب علم أن يقرأه لأنه بين فيه شطح النصارى الذين بدلوا دين المسيح، عليه الصلاة والسلام، وخطأهم وضلالهم وأنهم ليسوا على شيء مما كانوا عليه فيما حرفوه وبدلوه وغيروه‏.‏ والكتاب مطبوع وبإمكان كل إنسان الحصول عليه، وفيه فوائد عظيمة منها ما أشرت إليه، بيان الشيء الكثير من آيات النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك ابن كثير رحمه الله في ‏"‏ البداية والنهاية ‏"‏ ذكر كثيراً من آيات النبي صلى الله عليه وسلم فمن أحب فليرجع إليه‏.‏

‏(‏133‏)‏ سئل فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى‏:‏ عمن يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نور من نور الله وليس ببشر وأنه يعلم الغيب ثم هو يستغيث به صلى الله عليه وسلم معتقداً أنه يملك النفع والضر، فهل تجوز الصلاة خلف هذا الرجل أو من كان على شاكلته أفيدونا جزاكم الله خيراً‏؟‏‏.‏

فأجاب بقوله‏:‏ من اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نور من الله وليس ببشر وأنه يعلم الغيب فهو كافر بالله ورسوله وهو من أعداء الله ورسوله وليس من أولياء الله ورسوله لأن قوله هذا تكذيب لله ورسوله ومن كذب الله ورسوله فهو كافر والدليل على أن قوله هذا تكذيب لله ورسوله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني‏)‏‏.‏

ومن استغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم معتقداً أنه يملك النفع والضر فهو كافر مكذب لله تعالى مشرك به لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم لأقاربه ‏:‏ لا أغني عنكم من الله شيئاً كما قال ذلك لفاطمة وصفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولا تجوز الصلاة خلف هذا الرجل ومن كان على شاكلته ولا تصح الصلاة خلفه ولا يحل أن يجعل إماماً للمسلمين ‏.‏

تم بحمد الله تعالى - المجلد الأول

ويليه بمشيئة الله‏.‏ عز وجل - المجلد الثاني